بسم الله الرحمن الرحيم.. بلاد النور والحرية تقر دستورا يحظر الحجاب في الأماكن العامة، وتوقع غرامة على المنقبة..؟!!.
بلاد المساواة تعادي الحجاب بشكل ممنهج، فقبل حظرت غطاء الرأس، واليوم غطاء الوجه.
كل المحاولات لثنيها لم تفلح، قيل لها: هذه حرية شخصية، وعلمانية الدولة تصون الحريات.
قالت: هذا انتهاك للإنسانية، وتمييز على أساس الجنس.
في أوربا موجة معاداة للإسلام، تتبناها الحكومات؛ في سويسرا منع للمآذن، وفي الدنمرك ودول عدة صحف تنشر رسوما مسيئة لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم، كوفئت الدنمرك على إثرها بتعيين رئيس وزرائها راسمسون.
الذي وقف موقفا سلبيا مؤيدا لتلك الرسوم، بتولي منصب الأمين العام لحلف النيتو، وذهبت اعتراضات تركيا مع الريح، وتوج ذلك بتكريم من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للرسام بالاستقبال والحفاوة.
هكذا علنا تعلن تلك الدول عن مواقفها من الإسلام، والنبي، بلا حذر. .فماذا نقول نحن؟ .
هل نقول: حق لهم ذلك، وأكثر من ذلك؟ .
كيف لا يفعلون ذلك، وفي المسلمين من يقف مواقف شبيهة وقريبة، بل يسبقون بها:
فبعض البلاد الإسلامية (= تركيا) قد حظرت غطاء الرأس في المدارس والجامعات منذ زمن، حتى من قبل أن تحظره فرنسا.
وبعضها (= مصر) تمنع المحجبات المنقبات من دخول الجامعات وقاعات الدرس.
والداء وصل إلى طبقة المختصين الشرعيين، ذوي المناصب الدينية أو الألقاب العلمية، فهذا شيخ كبير وإمام (= شيخ الأزهر السابق الطنطاوي) يقرع طالبة في صفها، لتغطيتها وجهها حين دخوله الصف، ويقول: للدول الأوربية الحق أن تحظر الحجاب.
وآخر مثله في المقام (= شيخ الأزهر الحالي الطيب) يرى أن النقاب عادة، وليست عبادة، وليس من الدين ولا الشريعة.. لحقه في هذا الوصف شيخ عاش ودرس حيث علوم الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح (= الشيخ الددو) فيميل إلى الرأي ذاته، ويشير إليه.
وآخرون تطوعوا من لدن أنفسهم، دون أن يستفتيهم أحد من أصحاب القضية، فأجازوا بل دعوا المسلمات لكشف الوجه، استجابة لهذا الإرهاب الديني، ليس لأنهن في حال ضرورة، إنما لأن هؤلاء في أصل الأمر يعتقدون جواز الكشف، إن لم يكونوا يستحبونه هم أيضا.
وأمام هذا الهجوم والتضييق، وهذا الخذلان، المتمسكون والمتمسكات بدينهم، والمتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأزوجه ونساء الصحابة رضوان الله عليهن في عنت وعسر.
فما موقف دولهم التي ضيقت عليهم بأهون من موقف بلاد الإسلام وبعض المسلمين، الذين لم يتخلوا عنهم فحسب، بل كانوا مع خصومهم الذين ظلموهم واستضعفوهم.
فهل فعل هؤلاء ما هو صائب وحق؟ .
إذا بلغ الأمر حد العدوان على الإسلام، وأحكامه، وأهله: فواجب نسيان الخلافات الفقهية، والتوحد في المواقف أمام من لا يرى الإسلام شيئا، ولا يجوز استثمار هذه الأوضاع الشاقة على المتمسكين بدينهم، لتقرير وترسيخ مذهب على مذهب، ورأي على رأي.
هذا لا يجوز، بل إثم كبير، وليس من النزاهة والمروءة: أن ترى إخوانك وأخواتك في محنة، لاذنب لهم سوى أنهم قالوا: ربنا الله.
ثم يجدونك في صف الظالم، تقرعهم وتخطؤهم، أو تطالبهم بمثل ما طلب إليهم جلادوهم.
تقول: إنهم على قول مرجوح، والكشف هو قول الجمهور، فلم يتمسكون بقول ضعيف، ويجعلون مصيرهم معلقا بما هو مستحب في أحسن أحواله، وليس بواجب؟ .
لكن هذا غير صحيح، فإن كان هذا هو علة هذا الموقف السلبي من قضية الحجاب، فهذا ينم عن قلة معرفة بأحكام الحجاب.
وما كان ينبغي لمن بنى على آرائه مواقف مصيرية، كموقفه من حجاب المسلمات في فرنسا، أن يتخذ رأيا ويتبنى مذهبا، قبل يحرره ويدرسه جيدا، حتى يصل إلى رأي صحيح؛ لأنه إن لم يفعل ذلك، يكون قد بنى مواقفه على ما لم يحط به علما.؟!!.
إن المتمسكة بحجاب يتمثل بـ "تغطية الوجه بالخمار، والبدن بالجلباب"، إنما تلتزم مذهب وطريقة المؤمنات، ابتداء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابيات، ثم التابعيات، من عصر إلى عصر حتى بدايات الاستعمار لبلاد المسلمين، وهذا أمر ذكره جمع من العلماء:
ففي عهد الصحابة كن النساء على ذلك:
فعن عائشة رضي الله عنها: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذوا بنا سدلت أحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه". أبو داود
وعن فاطمة بنت المنذر: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق، فلا تنكره علينا". مالك
يقول الغزالي وقد عاش في القرن الخامس: "ولم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات".
ونقل النووي وقد عاش في السابع، عن الجويني وقد عاش في الخامس: "اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وبأن النظر مظنة الفتنة".
وأبو حيان الأندلسي عاش في الثامن: " عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة".
وابن حجر في التاسع: "استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد، والأسواق، والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال".
وابن رسلان: "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساق".
ففي مسألة الحجاب ثلاث إجماعات:
الأول: إجماع على وجوب تغطية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجوههن.
الثاني: إجماع على وجوب تغطية عموم النساء وجوههن حين الفتنة (= شابة، جميلة).
الثالث: إجماع عملي على منع خروج النساء كاشفات الوجه.
فالذين أجازوا كشف الوجه، لهم في ذلك تفصيل بأمرين:
الأول: أن الأفضل التغطية، تشبها بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه حال الفتنة (= شابة، جميلة) تجب التغطية.
هذا باختصار رأي من أجاز، لكن المعاصرين أتوا ببدعة من القول لم يسبقهم أحد؛ حيث أجازوا كشف الوجه من غير شرط أمن الفتنة، ولا ذكر أفضلية التغطية، لأجل هذا اندفع النساء بالكشف، ظانين أنهم في هذا على مذهب أبي حنيفة ومالك، ولو نظروا في كتب الحنفية والمالكية، لما وجدوا تجويزا إلا بشرط أمن الفتنة، ومنعهم الشابة أن تكشف وجهها.
ثم إن الأدلة صريحة محكمة في تغطية الوجه بالخمار، والبدن بالجلباب، ليس بالقميص والبنطلون أو التنورة، مع خمار الرأس (= حال الحجاب العصري) فمن ذلك قوله تعالى:
{وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
هذه الآية بالإجماع دالة على حجب المرأة كلها من الرجال، تصديقا لحديث: (المرأة عورة). فلو كانت في بيتها، فيكلمها الأجنبي وبينهما ستر، وإذا خرجت فتلبس خمارها وجلبابها، هو حجابها، لكن من أجاز الكشف خص هذه الآية بالأزواج، وقوله ضعيف؛ لأن الحكم معلل، والعلة هي: تحصيل طهارة القلب للجنسين. وسائر النساء أحوج لها من الأزواج بلا ريب.
وقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}.
وهذه صريحة للغاية؛ فإنها ذكرت ثلاث فئات: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. وعمتهن بحكم واحد هو: إدناء الجلباب. فدل على أن صورة الحكم في جميعهن واحد لا يختلف.
وقد عرف صورة حجاب الأزواج؛ أنه الحجاب الكامل، إذن البقية عليهن الحجاب نفسه.
يؤكد هذا ثلاثة أمور:
الأول: قول ابن عباس في تفسير الآية: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".
الثاني: أن التابعين تتابعوا على هذا التفسير: عبيدة السلماني، وابن سيرين، وابن عليه، وابن عون
الثالث: أن جميع المفسرين فسروا الآية بقول ابن عباس، ولم يقل أحد منهم أن معناها الكشف.
وهذا يكشف حقيقة رأي ابن عباس في الحجاب، وليس كما نسب إليه بعدم تحقيق، من القول بالكشف؛ لما ورد عنه في آية الزينة، والمقام لا يتسع للتفصيل.
ثم قول ابن مسعود في الآية: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قد عرف بأنه الحجاب الكامل، وتبعه على ذلك النخعي، والحسن، وأبو إسحاق السبيعي، وابن سيرين، وأبو الجوزاء.
كل هؤلاء يقولون بالتغطية، فكيف يقال: الكشف قول الجمهور. بله أن يقال: عادة، وليس بعبادة.
إذن هؤلاء المسلمات يتبعن أمرا محكما قويا، وهن معتزات بدينهن، فمن كان له غرض في نصرة الدين، فليسخر قلمه ولسانه ورأيه في دعم هذه العزة، وليس في التوهين منها، فقيام الدين لا يكون إلا بعزة وتمسك، ولا يموت الدين بمثل الوهن والتخاذل والتنازل.
الكاتب: د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
المصدر: موقع إسلام ويب